يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فَسيلة، فإن إستطاع ألا يقوم حتى يَغرِسها، فليفعل».
عندما يكون الإنسان موصولاً بالله تعالى، قريبًا منه، يَتغيَّر فيه كلُّ شيء، إنه يكون على شاكلة أخرى: تصوراته وأفكاره، قِيَمه ومعاييره، أخلاقه وسلوكياته، أهدافه وأحلامه.
في هذا المستوى فقط يجد الإنسان نفسَه موصولاً بالحياة، وتلك الروابط الدقيقة التي تُضفي عليها أسرارها البديعة.
في هذا المستوى فقط يجد الإنسان نفسه متجاوزًا لحدود الدنيا الزائلة، وقيود الجسد الفاني إلى رحابة الخلود وَسَعة الرُّوح.
في هذا المستوى فقط يجد الإنسان نفسه أمام أحلام كبيرة، وآمال شاسعة، وطموحات راقية، والأحلام جزء أصيل من الكينونة البشريَّة، بل هي كوثر طاقتها الدفاق.
عندما يَحلُم الإنسان ويُعطي فرصة لآماله أن تتغلغل في حنايا الوجدان، عندها يشعر أنه كائن ذو قيمة، وعندما يَفقِد الإنسان الحُلمَ ويتلاشى لديه الأملُ، عندها يشعر بالتحطم والتمزق وعدم القيمة.
قيمة الحُلْم- إذًا- أنه يَهَب صاحبه الشعور بالقيمة الذاتية.
النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّم المسلم في هذا الحديث أهميةَ الحُلْم والأمل الجميل، بل أن تكون أحلامه وآماله كبيرة جدًّا، تتجاوز ذاته الشخصية الصغيرة إلى رحابة الإنسانية الفسيحة، وتسمو على ضيق الدنيا الفانية إلى فضاء الآخرة الأبدية، ومن ثمَّ فالنبي صلى الله عليه وسلم يريد للمسلم أن يتفاعل مع أحلامه وآماله بشكل إيجابي، إنه يرفض أن يغتالها في ضميره، يرفض أن يُشوِّهها في أعماقه، يرفض أن تَظلَّ حبيسة الخيال، وبالتالي يرفض صلى الله عليه وسلم ولا يرضى للمسلم أن ييئس أو أن يتشاءم، ليس فقط عندما تُواجِهه بعض المعوِّقات العابرة، بل أيضًا حتى في أقصى لحظات الضعف التي تُحطِّم كل شيء في الكينونة البشرية {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87]، إنه لا يحب له اليأس والتشاؤم، ولا يرضى له الخضوع للظروف، حتى وإن بدت شديدة عنيفة، لأن ذلك إساءةُ ظن بالله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23].
هذا الحديث إذًا- بهذه الصيغة الرمزية ذات الدَّلالة العميقة- ينبِّه المسلم على ضرورة الصبر والمثابرة، وأهمية الحرص الشديد على بذْل الوُسْع لتحقيق الحُلْم وبلوغ الأمل، يُنبِّهه على ضرورة التفاعل الإيجابي مع الأحداث، حتى تلك التي تَضغط على العقل وتكاد تَخنُق الرُّوحَ، يُنبِّهه على ضرورة الانعتاق من بوتقة الأنانية المقيتة إلى رَحابة التفكير الجميل في الآخرين وجلْب المنفعة لهم، يُنبِّهه على أن الحياة لا ينبغي أن تنتهي عند شخص معين، أو عند مرحلة محددة، بل من المهم جدًّا أن يشعر بها الإنسان المسلم على أنها خط متواصل وبحر دفاق، يمتد من الدنيا إلى الآخرة، يُنبِّهه -وهذا أعظم- على أن يكون دائمًا قريبًا من الله، موصولاً بعالم الخلود: عندما يَحلُم، عندما يأمل، عندما يُخطِّط.
عندما يعيش الإنسان بهذا التفكير وبهذه الرؤية، وعندما يتعامل مع الحياة -بشتى روابطها وأحداثها- على نحو هذه الشاكلة الجميلة، حينها فقط سيكون إنسانًا إيجابيًّا: في تفكيره، في أخلاقه، في سلوكياته، في أهدافه، وحينها -أيضًا- سيعيش مطمئن القلب، مُشرِق الرُّوح، متألِّق العقل، ذلك لأنه الآن -وقد تغيَّرت رؤيته لشخصه، وللحياة من حوله، وللمصير السائر إليه- لم يَعُد يخشى الفشلَ، ولم يَعُد يخشى الحرمان، فهو مرتبطٌ بخالقه الجليل، الإله المطلق الأزلي، ومن ثمَّ فهو بين أمرين: إما أن يَقطِف ثمرة كفاحه وصبره ومثابرته هنا في عالم الدنيا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]، وإما أن يجنيها -كأحسن ما يكون إجتناء ثمرة- هناك في عالم الخلود والسرمدية الفائقة {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17].
إن النبي صلى الله عليه وسلم يُدرِك أن القيامة لا تقوم على مسلم، بل فقط على شرار الخَلْق، كما أنه صلى الله عليه وسلم يدرك أن الساعةَ حدث عظيم هائل جدًّا، ليس يمكن لبشر الصمود له، إنه يُدرِك كلَّ هذه الحقائق، غير أنه بإيحاءات كلماته العميقة الدقيقة يريد أن يقول للمسلم: عِشْ حياتك بأمل جميل، وحُلْم سامٍ، وتفاؤل كبير، ولا تيئَسْ، ولا تخَفْ، ولا تتشاءم، فهناك رب بَرٌّ رحيم، عليم بصير، قوي قدير، لا يضيع عنده شيء من العمل الصالح، ولا تخيب لديه نية خالصة.
عش حياتك بالحب للآخرين، والعطاء الكريم لهم، والحرص الشديد على منفعتهم وخيرهم، حتى وإن كنتَ على يقين واضح أنهم سيجنون فوائد صبرك وكفاحك دونك بعد أن تَرحل عنهم، فالله لن ينسى لك ذلك، وسيُجازيك خير الجزاء.
ومن جهة أخرى، نستطيع أن نفهم -والله أعلم- أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يريد أن يقول للإنسان المسلم الذي سيكون قدره العيشَ في أزمنة الفتن، وتفجُّر القلاقل المهولة: ليكن تفكيرك إيجابيًّا ورائعًا، ولهذا عليك بالعمل لِما فيه خيرك وخير أمتك، أما تلك الأفكار السلبية التي تقول لا فائدة، فإبتعد عنها، لأنها مُنحرِفة وخاطئة تمامًا، ذلك لأنك مأمور ببذر البذور وغرْسها، أما الثمرات فهي شأن الله تعالى.
هكذا يعلِّمُ النبي صلى الله عليه وسلم الإنسانَ المسلم أن يعيش حياتَه وأحداثها، ببصيرة عميقة بمعاني الحياة، وصِلة قوية بآفاق السماء، حريص على رؤية النور في حلكة الظلام.
كثير من الناس رضُوا أن يقضوا حياتهم في سجون حَرِجة ضيقة، لا ترى قضبانها، ولا تُبصِر جدرانها!! بَيْد أنها تشوِّه فيهم معانيَ الإنسانية الجميلة، وتغتال فيهم كلَّ حُلْم شفيف، ومن ثمَّ يمضون في هذه الحياة لا يشعُرون بها ولا تشعر بهم، فهم عالة عليها وعلى الإنسانية.
هناك التقاليد الجاهلية، هناك العادات السخيفة، هناك التصورات الشاردة، هناك الزيوف الكاذبة، تلك قضبان شديدة تَصُد صاحبَها عن إنطلاقة العقل، وإشراقة الرُّوح، وتَحرِمه من تذوُّق جماليات الحياة، وتلقِّي أنوار الإيمان، وهواتف الخلود.
يا بؤسهم! يخرجون من الدنيا ولم يتذوَّقوا أحلى ما فيها، يخرجون من الدنيا ولم يتبصَّروا أعمق ما فيها!
ولقد ضرب لنا القرآن أمثلةً رائعة جدًّا عن إشراقات الأمل، ونفحات الحُلْم الجميل، التي نبعت من أعماق الرُّوح، واستمدَّت قوتها من كوثر الحياة، فتُحقِّق الأمل، وتُحقِّق الحُلم!
عندما جيء بالنبي يوسف صلى الله عليه وسلم إلى مصر، تَفرَّس فيه حاكمُها، فلمَح مخايلَ السموِّ على قسمات محيَّاه، وصدق إلهام الروح فيه، فكان القرار: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21]، فعلَّق القدر الإلهي المُطلَق: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} [يوسف:21].
وعندما حوصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع صاحبه في الغار، كاد الصديق أبو بكر رضي الله عنه أن يَفقِد الأمل وتخبو في سويدائه شعلة الحُلم، فجاءت كلمة المصطفى صلى الله عليه وسلم تُسكِّن من رَوعه، وتَشُد من أزره، وتفتح له باب الأمل والحلم الجميل: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، فعلَّق القدر الإلهي المطلق: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].
وفي تعاليم الإسلام، تجد نفسَ الحقيقة: الحرص على إشاعة الحُلْم الجميل والأمل المُشرِق في شخصية الإنسان المسلم.
عندما يَقترِف العبدُ الذنبَ ويتلبَّس بالخطيئة، ويتعثَّر في الطريق، في هذه اللحظة بالذات يَهتِف الإسلام به ليستأنف الطريق من جديد، يَهتِف به لتظل رُوحه مشعشعة بنور الأمل وسمو الحلم في نيل رِضوان الله ودخول الجنة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن اللهَ عز وجل يَبسُط يدَه بالليل ليتوب َمسيءُ النهارِ، ويبسطُ يدَه بالنهارِ ليتوب َمسيءُ الليل».
إن المسلم إنسان، خيِّر، متفائل، مِعطاء، أحلامه تَشمَل شخصَه والآخرين من حوله، آماله تَسَع الحاضر والمستقبل، مهمته هي إسعاد وجلْب المنفعة لكل مَن تَربِطه بهم رابطة: الزوجة، الأولاد، الأصدقاء، الجيران، المجتمع، والإنسانية جمعاء، يقول الحق تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
الكاتب: نورالدين قوطيط.
المصدر: موقع الإلوكة الشرعية.